في جميعِ أمورنا يجب أن نأخذها مأخذًً لا غلوَّ فيه ولا جفاء، أمَّا جفاءها فسيؤدي إلى حالة اللامبالاة، التي ستُنتج فيما بعد خطأً سلوكيًّا، وأمَّا الغلوّ فيها فسيكبُّ على النفْسِ حرصًا زائدًا عن قدره المطلوب، الذي هو أيضًا سيُفضي فيما بعد إلى الخطأ في أداء العمل.
يقف الإسلام أكثرَ من موقفٍ يضعُ فيه حدًّا لهذا الحرص، فنجدُ الإستعجال إلى الصلاة بغرض اللحاق بالركعة ممنوعٌ في شريعتنا، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا» أخرجه البخاري ومسلم، فالنفس مشحونةٌ بحرصٍ كثيفٍ يقودها إلى أن تلهث لهثًا من أجل اللحاق بجزءٍ من الصلاة، فبيّن الإسلام ممنوعة هذا الفعل الذي يقف وراءه الحرص الزائد كدافع أساس.
والإحتياطُ للنفس فيما لا داعي له قد يدخل في باب تكثيف الحرص عما هو مطلوب، حيث إنَّه قد يؤدي إلى الخطأ فيما بعد، لذا نجدُ الإسلام يحدّ من هذا الإحتياط، ففي يوم الشكّ -مثلًا- الذي يسبق رمضان، قد يصومه بعض الناس من باب أنَّه قد يكون من رمضان، إلا أنَّ الإسلام وقف موقفًا حازمًا من هذه المسألة: «لا يتقدّمن أحدكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين...» أخرجه البخاري ومسلم.
وما يُصاب به عددٌ من الناس من الوسوسة الشيطانية هو جزءٌ من هذا القَبِيل، وهي قد لحقت بركب الأفعال الممنوعة، إذ إنَّ إلغاء العمل التعبّدي -مثلًا- كرّة بعد أخرى من أجل تجديد الطّهارة بدون وجه حقّ هو من دفع الحرصِ الزائد الذي يرَى عمله منقطعًا أو ناقصًا، وفي الحديث الذي يحدّ مرةً أخرَى من هذا الشحن النفسي غير المعتدل: «لا ينفت -أو لا ينصرف- حتّى يسمعَ صوتًا أو يجد ريحًا» أخرجه البخاري ومسلم.
الدافع النّفسي لفعل الأفعال يجب أن ينهض من طرفَي غلوّ الإفراط وجفاء التفريط، وأن يستقرّ في مستوى الوسطية والإعتدال، وإلا سيأخذ مجرًى خاطئًا عند أداء العمل، والإسلام قد نبَّه على قضية الإتقان في العمل عن طريق ذكر الحبّ الربّاني له: «إن الله تعالى يحبّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» حسّنه الألباني.
والحرص عند زيادته عن المطلوب يجرّ تبعات سلبية يصعب علاجها فيما بعد، فقد يحرص الأبُ حرصًا كثيفًا يدفع به إلى أن يمنع ابنه من التعايش مع المجتمع خوفًا من شروره وأخطاره، ممّا يجرُّ تبعات سلبية على الابن من عدم الإندماج في المجتمع عند تحمّله للمسئولية وغيرها من المشاكل.
لقد أوْدَى الحرصُ بالمعْتزلةِ إلى أن ينفوا الصفات عن الله سبحانه وتعَالى، حرصًا على ألا يشبّهونه -جلَّ وعلا- بالمخلوقين، مع أنَّ الله أثبتها في كتابه الحكيم، شُحِنَت صدورهم بحرصٍ زائدٍ عن قدره سلك بهم أن ينفوا شيئًا قد أُثبت في القرآن، يقف وراء هذا النفي الحرص الزائد كدافع أساس منطلقٌ من قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وعندما ننظر نظرة تفكّرٍ في بعضِ البدعِ -سواءً التي نشأت في قديم العصور، أو إستجدّت في زماننا هذا- نجدُ أنها كانت من قِبَل حرصٍ تجمّع في النفس وأخذ فوق مساحته، لينعكس أثره في سلوكٍ أبعد ما يكون عن السنة النبوية المطهّرة.
ألا رُبَّ باغ حاجة لاينالُها *** وآخر قد تُقضى له وهو آيسُ
يُحاولها هذا وتُقضى لِغيرهِ *** وتأتي الذي تُقضى لهُ وهو جالِسُ
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، المنهج المعتدل هو الذي يسلُك بصاحبِه خُطى الكمال والإتقان، لا إلى غلوّ الغاليين، ولا إلى جفاءِهم.
الكاتب: خالد بن صالح الهذلول.
المصدر: موقع نوافذ.